فصل: (فرع: للفقير والغني تملكها بعد الحول)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: تملك اللقطة بعد سنة]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (فإن جاء صاحبها، وإلا.. فهي له بعد سنة).
وقال في موضع آخر: (فإذا عرفها سنة فإن شاء ملكها على أن يغرمها لصاحبها إذا جاء، وإن شاء حفظها عليه).
وجملة ذلك: أنه إذا وجد اللقطة وعرفها سنة.. فهل تدخل في ملكه من غير أن يختار تملكها، اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: تدخل في ملكه بمضي سنة التعريف وإن لم يختر تملكها، واحتج بظاهر كلام الشافعي: (وإلا فهي له بعد سنة)، وبما روي في حديث أبي ثعلبة الخشني: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «ما وجدته في طريق ميتاء أو قرية عامرة.. فعرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا.. فهي لك»، ولأن سبب التملك هو التعريف فإذا وجد السبب.. حصل الملك، كالاصطياد، والاحتشاش، وإحياء الموات.
وقال أكثر أصحابنا: لا يملكها بمضي السنة، وهو الأصح؛ لأن الشافعي قال: (فإذا عرفها سنة: فإن شاء ملكها)، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث زيد بن خالد الجهني: «ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا.. فشأنك بها» فأغراه بتملكها بعد التعريف، فدل على أنه لم يملكها بمضي مدة التعريف، ولأنه تملك بعوض، فافتقر إلى اختيار التملك - وفيه احتراز من الصيد والاحتشاش. فإذا قلنا بهذا:
فبماذا يحصل له الملك؟ فيه ثلاثة أقوال، حكاها الشيخ أبو حامد:
أحدها: أنه لا يملكها إلا بثلاثة أشياء: وهو أن ينوي بقلبه تملكها، ويتلفظ بذلك وهو أن يقول: تملكتها - ويتصرف فيها، كما قلنا في المستقرض في أحد الوجهين: أنه لا يملك ما استقرض إلا بالعقد والتلفظ والقبض والتصرف.
والقول الثاني: أن الملتقط يملك اللقطة بالنية والقول، وإن لم يتصرف فيها، كما قلنا في المستقرض في الوجه الثاني: أنه يملك بالعقد والقبض وإن لم يتصرف.
والقول الثالث: أن الملتقط يملك اللقطة بمجرد نية التملك، وإن لم يتلفظ بها، ولم يتصرف؛ لأن القول إنما يفتقر إليه إذا كان هناك موجب، فيقبل منه. ولا يوقف الملك على التصرف؛ لأنه لو لم يملك قبل التصرف.. لما صح تصرفه.
وحكى ابن الصباغ وجها رابعا - وهو اختيار القاضي أبي الطيب -: أنه يملك اللقطة بمجرد القول وهو: أن يختار تملكها بالقول وإن لم ينو بقلبه ولم يتصرف؛ لأن الملك في الأموال يحصل بالاختيار بالقول من غير نية ولا تصرف، كما قلنا في الشفعة والغنيمة، فحصل فيها خمسة أوجه.

.[فرع: للفقير والغني تملكها بعد الحول]

وإذا عرف الملتقط للقطة لسنة.. فقد ذكرنا أن له أن يحفظها على صاحبها، وله أن يختار تملكها سواء كان الواجد غنيا أو فقيرًا، وسواء كان من آل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو من غيرهم.
وقال أبو حنيفة: إذا وجدها الفقير وعرفها حولا.. فهو بالخيار: بين أن يحفظها على صاحبها، وبين أن يتملكها، وبين أن يتصدق بها عن صاحبها. ويكون ذلك موقوفا على إجازة صاحبها، فإن رضي به.. وقعت الصدقة عنه، وإن رده.. كانت الصدقة عن الواجد، ووجب عليه ضمانها. وإن وجدها الغني فعرفها حولا.. كان بالخيار: بين أن يحفظها على صاحبها، وبين أن يتصدق بها عن صاحبها. فإن أجازها صاحبها.. وقعت عنه، وإن ردها.. وقعت عن الواجد، وكان عليه ضمانها، ولا يجوز للغني تملكها).
وحكى أصحابنا عن أبي حنيفة (إذا كان الواجد من آل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. فليس له أن يتملك اللقطة وإن كان فقيرًا)
وقال مالك: (إن كان الواجد فقيرًا.. فله أن يتملك اللقطة بعد التعريف، وإن كان غنيا.. فليس له أن يتملكها بعد التعريف، بل يحفظها على صاحبها)
دليلنا: ما وري في حديث زيد بن خالد الجهني: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن اللقطة فقال: عرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا فشأنك بها» أي: افعل بها ما تشاء. وروي: «وإلا.. فاستنفع بها» ولم يفرق بين الغني والفقير.
«وروى أبي بن كعب قال: وجدت صرة فيها مائة دينار، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «عرفها حولا" ثم أتيته" فقال: «عرفها حولا" - مرتين أو ثلاثا - إلى أن قال: اعرف عددها ووعاءها ووكاءها، فإن جاء صاحبها، وإلا.. فاستمتع بها»
قال الشافعي: (وأبي بن كعب من أيسر أهل المدينة أو كأيسرهم)
ولأن من صح أن يملك بالقرض.. صح أن يملك اللقطة، كالفقير، وعكسه العبد.

.[مسألة: اللقطة أمانة كالوديعة]

وإذا التقط الرجل لقطة بنية التملك بعد التعريف، أو بنية الحفظ على صاحبها.. فإن اللقطة أمانة في يده مدة التعريف؛ لأن الحظ في التعريف لصاحبها، فهي كالوديعة. فإن تلفت في يده، أو نقصت من غير تفريط.. فلا ضمان عليه، كما قلنا في الوديعة. فإن جاء صاحبها قبل انقضاء مدة التعريف.. أخذها وزيادتها المتصلة بها والمنفصلة عنها؛ لأنها باقية على ملكه.
وإن نوى الملتقط تملكها قبل انقضاء مدة التعريف.. لم يملكها بذلك؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أباح له تملكها بتعريفها سنة، فلا يملكها قبل ذلك، وهل يضمنها بهذه النية؟ ينظر فيه:
فإن نقلها بعد هذه النية من موضع إلى موضع.. ضمنها، ولم يزل عنه الضمان بترك نية الخيانة، ولا يملكها بعد السنة بالتعريف؛ لأنه قد صار غاصبًا.
وإن لم ينقلها بعد هذه النية.. ففيه وجهان حكاهما الطبري:
أحدهما: يصير ضامنا لها؛ لأنه صار ممسكا لها على نفسه.
فعلى هذا: لا يملكها بالتعريف، ولا يزول عنه الضمان بنية ترك الخيانة، وإنما يبرأ بالتسليم إلى مالكها.
والثاني: لا يصير ضامنا لها، ولم يذكر المسعودي [في "الإبانة" ق \ 359] غيره؛ لأنه لم يوجد منه إلا مجرد النية، وذلك لا يوجب الضمان. فإن ترك هذه النية وعرفها.. تملكها بعد استيفاء التعريف.

.[فرع: ثبوت بدل اللقطة بعد تملكها]

وإذا أخذ اللقطة فعرفها حولا، فإن قلنا: لا يملكها إلا باختيار التملك.. فهي أمانة في يده، كما كانت قبل انقضاء مدة التعريف.
وإن قلنا: إنه يملكها بمضي مدة التعريف، أو قلنا: لا يملكها إلا باختيار تملكها، فاختار تملكها.. ملكها ببدلها في ذمته. فإن كان لها مثل.. ثبت مثلها في ذمته، وإن لم يكن لها مثل.. ثبتت قيمتها في ذمته.
وحكي عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: إذا تملك اللقطة بعد الحول.. لا يثبت بدلها في ذمته، وإنما يضمنها إذا جاء صاحبها وطالب بها.
وقال داود: (يملكها، ولا يثبت بدلها في ذمته؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن جاء
صاحبها، وإلا.. فشأنك بها»، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رواية عياض بن حمار: «فإن جاء صاحبها.. فهو أحق بها، وإلا.. فهي مال الله، يؤتيه من يشاء» ولم يذكر وجوب البدل عليه).
وهذا ليس بصحيح؛ لما روى الشافعي: «أن عليا كرم الله وجهه وجد دينارًا، فذكره للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمره أن يعرفه، فعرفه، فلم يعترف به، فأمره بأكله، فلما جاء صاحبه.. أمره أن يغرمه». وفي رواية غير الشافعي: «أن عليا كرم الله وجهه دخل على فاطمة، فرأى الحسن والحسين - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - يبكيان، فقال: ما يبكيهما؟ قالت أصابهما الجوع، فخرج علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فوجد دينارا بالسوق، فحمله إليها، فقالت: احمله إلى الدقاق، فاشتر به دقيقا، فحمله إليه، فقال: أنت ختن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ ـ وكان الدقاق يهوديا ـ فقال علي: نعم، فقال: خذ الدينار والدقيق، فأخذه، فأتى به فاطمة، فقالت: احمله إلى فلان الجزار وخذ عليه لحمًا بدرهم، فمر عليه، وأخذ اللحم وحمله إليها، فعجنت وخبزت، وأرسلت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما أتاها، ذكرت له الأمر، وقالت له: إن كان حلالًا أكلت وأكلنا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «باسم الله" فبينا هو في ذلك إذ سمع رجلا ينشد الله والمسلمين.. فاستدعاه وسأله، فقال: ضاع مني دينار، فقال لعلي: مر على الجزار واسترجع منه الدينار وقل: علي الدرهم، ورده إليه»
ولأنه مال من له حرمه، فوجب أن لا يملكه بغير عوض بغير اختيار صاحبه، كالمضطر إلى الطعام.
فإن جاء صاحبها والعين باقية في ملك الملتقط.. أخذها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن جاء صاحبها.. فهو أحق بها».
وإن وجدها زائدة.. نظرت.. فإن كانت زيادة متصلة، كالسمن والكبر.. أخذها مع زيادتها؛ لأنه يتبعها.. وإن كانت زيادة منفصلة، كاللبن والولد المنفصلين.. كانت الزيادة للملتقط؛ لأنها زيادة حدثت في ملكه.
وإن وجدها صاحبها ناقصة.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يأخذها وأرش ما نقصت؛ لأن جميعها مضمون على الملتقط إذا تلفت، فكذلك إذا تلف بعضها.
والثاني: أنه بالخيار: بين أن يرجع بالعين ويأخذ أرش النقص معها، وبين أن يطالب ببدلها؛ لأن بدلها ثابت في ذمة الملتقط، فكان لصاحبها المطالبة به.
والثالث: حكاه القاضي أبو الطيب في " المجرد " - "أنه يأخذها ولا أرش له؛ لأن النقص كان في ملكه. والمذهب الأول.
وإن جاء صاحبها وقد تلفت العين في يد الملتقط، أو أتلفها.. رجع بمثلها إن كان لها مثل، أو بقيمتها إن لم يكن لها مثل.
وقال داود: (لا يرجع عليه ببدلها)، ووافقه الكرابيسي من أصحابنا. وهذا ليس بصحيح؛ لما ذكرناه من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
إذا ثبت هذا: فمتى تعتبر قيمتها؟ وفيه وجهان:
الأول: قال أبو إسحاق: تعتبر قيمتها يوم يطالب بها صاحبها؛ لأنه وقت وجوبها؛ لأنه لو وجبت عليه قيمتها حين التملك.. لوجب إذا مات قبل أن يجيء صاحبها أن لا يكون لورثته أن يقتسموا جميع التركة، بل يعزل منها قدر قيمتها، كمن مات وعليه دين.
والثاني: - وهو المذهب - أن قيمتها تعتبر يوم تملكها؛ لأن للقطة تجري مجرى القرض، ومن اقترض شيئا.. وجبت عليه قيمته، فإن قيمته تعتبر وقت تملكه، لا حين يطالب به.
قال الشيخ أبو حامد: وأما قسمة التركة التي ذكرها أبو إسحاق: فلا نسلمه، وإن سلمناه.. فإنما كان كذلك؛ لأنه لا يعرف المستحق، والظاهر أنه لا يعرف، فلم توقف التركة.

.[فرع: بيع الملتقط اللقطة]

فإن تملك الملتقط اللقطة وباعها، وحضر المالك في حال الخيار.. ففيه وجهان:
أحدهما: يفسخ المالك البيع ويأخذه؛ لأنه يستحق العين، والعين باقية.
والثاني: لا يملك الفسخ؛ لأن الفسخ حق للمتعاقدين، فلم يملكه غيرهما من غير إذنهما.

.[مسألة: لا تدفع اللقطة بالتخمين]

وإذا التقط الرجل لقطة فعرفها، فجاء رجل وادعى أنها له:
فإن وصفها المدعي بصفاتها، وشهدت له البينة أن تلك اللقطة بهذه الصفة له..
وجب دفعها إليه؛ لأنه قد عرف أنه مالكها بالبينة.
وإن لم يصفها، ولم يقم عليها بينة.. لم يجز دفعها إليه.
وإن وصفها بصفاتها، ولم يقم عليها بينة، فإن لم يغلب على ظن الملتقط أنها له.. لم يجب دفعها إليه، ولم يجز؛ لأنه لا يدفع إليه أمانة عنده بالتخمين.
فإن طلب المدعي يمين الملتقط.. نظرت: فإن أقر الطالب أنها لقطة في يد الملتقط يمينًا: ما يعلم أنها ملك الطالب، وإن لم يدع الطالب أن الملتقط يعلم أنها ملكه.. لم يجب عليه أن يحلف. وإن لم يقر الطالب أنها لقطة في يد الملتقط، وقال: هي ملكي.. قال المسعودي [في "الإبانة" ق \ 359] فإن الملتقط يحلف على البت والقطع. فأما إذا غلب على ظن الملتقط بوصف الطالب أنها ملكه.. فإنه يجوز له دفعها إليه، ولكن
لا يجب عليه دفعها إليه. وبه قال أبو حنيفة، وعامة أهل العلم.
وقال أحمد وبعض أصحاب الحديث: (يجب عليه دفعها إليه بذلك).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن جاء ربها.. فهو أحق بها، وإلا.. فشأنك بها».
و(ربها): مالكها، ونحن لا نعلم مالكها بوصفه لها، ولأنه وصف لما ادعاه فلم يستحقه بالصفة، كالمغصوب والمسروق. وكما لو كان عند رجل وديعة، وأشكل عليه المودع لها، فجاء رجل ووصفها بصفاتها، فإنه لا يجبر على دفعها إليه بذلك فكذلك هذا مثله.
إذا ثبت هذا: فإن اختار الملتقط دفع اللقطة إلى من وصفها بصفاتها، ثم جاء طالب آخر وادعى أنها له، وأقام بينة أن تلك اللقطة ملكه، أو أنه ابتاعها من مالكها، ولا يعلم أنها انتقلت منه - قال الشيخ أبو حامد: أو شهدت له أنه ورثها ولا يعلم أنها انتقلت من ملكه - حكم لصاحب البينة بملك اللقطة؛ لأن البينة أولى من الصفة.
فإن كانت اللقطة باقية.. أخذها الثاني ولا كلام، وإن كانت قد تلفت في يد الأول الذي أخذها بالصفة.. فللثاني الذي أقام البينة أن يطالب ببدلها الملتقط؛ لأنه دفعها إلى غير مستحقها، وله أن يطالب الذي تلفت في يده؛ لأن التلف حصل بيده. فإن ضمن الذي تلفت بيده.. لم يرجع بما ضمنه على الملتقط؛ لأنه يقول: ظلمني صاحب البينة، فلا يرجع على غير من ظلمه. وإن رجع صاحب البينة على الملتقط.. فهل للملتقط أن يرجع بما ضمنه على الذي تلفت في يده؟ ينظر فيه:
فإن كان قد سمع من الملتقط إقرار أن الملك للواصف، بأن يقول: هي ملكك، أو صدقت هي ملكك، وما أشبه ذلك.. لم يرجع الملتقط على الذي تلفت بيده بشيء؛ لأنه يعترف أن صاحب البينة ظلمه، فلا يرجع على غير من ظلمه.
وإن لم يتقدم منه إقرار بالملك للواصف، بأن قال حين الدفع: يغلب على ظني صدقه، إذا دفع إليه بالصفة.. كان له الرجوع على الواصف؛ لأن التلف حصل بيده، ولم يقر له بالملك.
هذا إذا دفعها الملتقط إلى الواصف برأيه. فأما إذا دفعها إليه برأي حاكم يرى
وجوب الدفع بالصفة، وألزمه ذلك.. فليس للذي أقام البينة أن يرجع على الملتقط بشيء؛ لأن الملتقط غير مفرط في الدفع.
فأما إذا تلفت اللقطة في يد الملتقط بعد أن تملكها، فجاء رجل فادعاها ووصفها، فغلب على ظن الملتقط صدقه، فدفع إليه قيمتها، ثم جاء آخر وادعاها، وأقام عليها بينة.. فلصاحب البينة أن يطالب الملتقط بقيمة اللقطة، وليس له أن يطالب الواصف؛ لأن القيمة التي قبضها ليست عليه اللقطة.

.[مسألة: لقطة الحيوان]

وإن كانت اللقطة حيوانًا.. فلا يخلو: إما أن يجدها في صحراء، أو في قرية: فإن وجدها في صحراء.. نظرت: فإن كان حيوانًا يمتنع بقوته من صغار السباع، كالإبل والبقر والخيل والبغال والحمير، أو يبعد أثره في الأرض لخفته، كالظباء والغزلان والأرانب، أو بطيرانه، كالحمام.. فلا يجوز التقاطها للتملك.
وحكى ابن الصباغ: أن أبا حنيفة قال: (يجوز التقاطها للتملك).
ودليلنا: ما روي: «أن رجلًا قال: يا رسول الله! إنا نصيب هوامي الإبل، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ضالة المسلم حرق النار فلا تقربنها».
وفي حديث آخر: «لا يؤوي الضالة إلا ضال» و(الضالة): اسم للحيوان خاصة.
وفي حديث زيد بن خالد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن ضالة الإبل، فغضب حتى احمرت وجنتاه، وقال: ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها».
وسئل عن ضالة الغنم فقال: «هي لك، أو لأخيك، أو للذئب».
فقوله: «معها حذاؤها» يعني: أخفافها، أي: أنها تقوى على السير، وقطع البلاد.
وقوله: «سقاؤها» يعني: أجوافها: لأنها تأخذ الماء الكثير في أجوافها، فيبقى معها.
وقوله: «ترد الماء، وتأكل الشجر» أي: هي محفوظة بنفسها.
فزجر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أخذ الإبل وبين لأي معنى منع منه. وقسنا عليه ما في معناها.
إذا ثبت أنه لا يجوز التقاطها للتملك.. فهل يجوز أخذها للحفظ على صاحبها؟
ينظر فيه:
فإن كان الواجد لها هو الإمام، أو الحاكم.. جاز له أن يأخذها ليحفظها على صاحبها؛ لما روي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كانت له حظيرة يجمع فيها الضوال). ولأن في ذلك مصلحة لصاحبها. فإن كان له حمى.. تركها في الحمى، ويسمها بسمة الضوال؛ لتتميز عن نعم الصدقة والجزية وخيل المجاهدين. وإن لم يكن له حمى، واحتاجت إلى الإنفاق عليها، فإن طمع في مجيء صاحبها في يوم أو يومين أو ثلاث.. أنفق عليها. وإن لم يطمع في مجيء
صاحبها.. باعها وحفظ ثمنها له؛ لأنه لو تركها.. استغرقت النفقة قيمتها، فكان بيعها أحوط لصاحبها.
وإن كان الواجد لها من الرعية، فأخذها ليحفظها على صاحبها.. فهل يضمنها بالأخذ لذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يضمنها؛ لأنه أخذها ليحفظها عل صاحبها، فهو كالحاكم.
والثاني: يضمنها بالأخذ؛ لأنه لا ولاية له على مالكها بحال، بخلاف الإمام والحاكم فإنهما يرصدان لمصالح المسلمين، ولهما ولاية على غير الرشيد.
فإذا قلنا بهذا: أو أخذها بنية التملك.. فقد لزمه ضمانها؛ فإن ردها إلى الموضع الذي وجدها فيه.. لم يزل عنه الضمان؛ لأن ما لزمه ضمانه "لا يزول عنه ضمانه برده إلى مكانه، كما لو غصب شيئا من مكان ثم رده إليه. وإن سلمها إلى الإمام أو الحاكم.. فهل يزول عنه الضمان؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يزول عنه الضمان؛ لأن الإمام والحاكم لا ولاية له على رشيد، ويجوز أن يكون مالكها رشيدا.
والثاني: يزول عنه الضمان، وهو الصحيح؛ لأن الإمام أو الحاكم لو أخذها ليحفظها على صاحبها.. جاز فإذا قبضها.. كذلك، لأن له ولاية على مال الغائب، ولهذا يقضي منه ديونه ويحفظه عليه.
فعلى هذا: إن أخذها الإمام أو الحاكم منه.. كان كما لو وجدها بنفسه وأخذها ليحفظها على ما مضى.
وإن كان الحيوان مما لا يمتنع بنفسه من صغار السباع، كالشياه، وعجاجيل البقر، وفصلان الإبل الصغار، وما أشبهها.. فيجوز التقاطه؛ لما روى زيد بن خالد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن ضالة الغنم، فقال: خذها، فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب».
ومعنى هذا: أي هي لك إن أخذتها، أو هي لأخيك إن أخذها.
قال الصيمري: يحتمل أنه أراد: أنها باقية على ملك مالكها.
وقوله: «أو للذئب» أي: إذا لم تأخذها أنت ولا أحد.. أكلها الذئب بلا شك.
فإذا التقط الرجل شيئا من هذا.. فهو بالخيار:
إن شاء تطوع بالإنفاق عليها، وحفظها لصاحبها.
وإن شاء عرفها حولا، وتملكها بعد ذلك.
وإن شاء باعها وحفظ ثمنها لصاحبها، أو عرف الحيوان نفسه حولا وتملك الثمن. وإن شاء أكلها قبل الحول، وعرفها حولا، فإن جاء صاحبها.. غرم له قيمتها. وقال مالك: (لا يجب عليه غرم قيمتها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإنما هي لك، أو لأخيك أو للذئب» ولم يذكر الغرم).
ودليلنا: أن هذا ملك لغيره، فلم يكن له تملكه بغير عوض من غير رضا المالك، كما لو كان في البنيان. والخبر محمول على أنه أراد: بعوضها.
إذا ثبت هذا: فإن أراد الملتقط بيعها، فإن لم يكن في البلد حاكم.. باعها بنفسه؛ لأنه موضع ضرورة. وإن كان في البلد حاكم.. رفع الأمر إليه ليبيعها الحاكم، أو يأمره بالبيع أو يأمر غيره.
فإن باعها الملتقط من غير إذن الحاكم مع قدرته عليه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح البيع؛ لأنه لما قام مقام المالك في الحفظ. قام مقامه في البيع.
والثاني: لا يصح، وهو الصحيح؛ لأنه لا ولاية له على المالك في بيع ماله، بخلاف الحاكم.
فإذا قلنا بهذا: وجاء المالك.. كان له أن يطالب الملتقط برد العين إن كانت باقية، أو بقيمتها إن كانت تالفة.
وله أن يطالب المشتري بذلك. فإن تلفت في يد المشتري، فرجع عليه بقيمتها... لم يرجع المشتري على الملتقط بالقيمة، بل يرجع عليه بالثمن إن كان دفعه. وإن رجع المالك على الملتقط بالقيمة.. رجع بها الملتقط على المشتري، ورد عليه الثمن.
وإذا قلنا بالأول: أو باعها بإذن الحاكم.. فإن الثمن يكون أمانة في يده مدة التعريف. فإن جاء المالك بعد البيع. لم يملك فسخ البيع، بل يرجع بالثمن، سواء كان قبل أن يتملكه الملتقط أو بعد ما تملكه؛ لأنه قام مقام اللقطة.
فإن هلك الثمن في يد الملتقط في مدة التعريف من غير تفريط منه، ثم جاء مالك اللقطة.. لم يجب على الملتقط ضمان، كما لو هلكت اللقطة في مدة التعريف.
وإن اختار المتلقط أكلها قبل الحول.. كان له ذلك؛ لأن في ذلك حظا لصاحبها؛ لأن قيمتها ثبتت في ذمة الملتقط، فإذا تركت، ربما تلفت، فسقط حق مالكها.
وهل يلزم المتلقط عزل قيمتها مدة التعريف؟
قال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: لا يلزمه عزل قيمتها هاهنا، وجها واحدا. وحكى في "المهذب" في عزل القيمة هاهنا وجهين:
أحدهما: لا يلزمه؛ لأن كل موضع جاز له أكل اللقطة.. لم يلزمه عزل بدلها، كما بعد الحول.
والثاني: يلزمه عزل بدلها من ماله؛ لأنه ليس له أن ينتفع باللقطة قبل الحول، فلما جوزنا له بالانتفاع بها هاهنا قبل الحول.. لزمه عزل بدلها من ماله؛ ليقوم بدلها مقامها.
فإذا قلنا: لا يلزمه عزل بدلها.. فإن بدلها يكون دينا في ذمته، ويعرف اللقطة نفسها. فإن مات أو أفلس، ثم جاء صاحبها.. ضارب مع الغرماء بقدر قيمة اللقطة.
وإن قلنا: يلزمه عزل بدلها، فعزله.. فإنه يعرف اللقطة نفسها، لا ما عزله، ويكون ما عزله أمانة في يده مدة التعريف، فإن تلفت في يده من غير تفريط.. لم يلزم الملتقط شيء آخر غير الذي عزله؛ لأن القيمة قد قامت مقام اللقطة، فإن اختار أن يحفظ القيمة أبدا على صاحب اللقطة بعينه.. كان له ذلك، وإن أراد أن يتملكها بعد التعريف.. كان له ذلك، فإذا تملكها كانت القيمة في ذمته، وإن مات المتلقط أو أفلس قبل أن يتملك القيمة، فجاء مالك اللقطة.. كان أحق بالقيمة المعزولة وله من سائر الغرماء.